كتابات وآراء


الثلاثاء - 08 فبراير 2022 - الساعة 12:39 ص

كُتب بواسطة : علي الصراف - ارشيف الكاتب


بعض المآسي تخفي وراءها من الحكمة ما هو أعظم. وعلى نحو ما أراد الكريم الذي قال “وترى الجبال تحسبها جامدة، وهي تمر مر السحاب”، فتحتاج أن تكون رائد فضاء لكي تتيقن أنها تمر مر السحاب بالفعل. إنما يُلزمك الآن أن تصعد إلى سمائه لترى كم من ريّان أُنقذ من موت أو آلام، بموت هذا الريان.

بعض الحكمة لا يُدرك إلا من فوق.

ما من طفل في العالم العربي، إلا وصار موضع عطف وخوف من أن يكون ضحية لخسران.

يقول أحد جيران أسرة ريّان “لم أقوَ على النوم طيلة خمسة أيام. لدي ابن بعمر ريّان كلما رأيته أتذكره (…) وكلما حاولت إغماض عيني تداهمني صورته عالقا في البئر”.

دمعت أعين الملايين. غرقنا بالخوف والأمل. وارتفع الدعاء له بالنجاة. وشاهد الملايين كم من بطلٍ في هذا المغرب، كان مستعدا للتضحية بحياته من أجل الوصول إلى قاع البئر. تلاحمت القلوب كما لم تفعل في أي وقت. والأيدي التي كانت ترتفع إلى السماء كان الكثير منها ينغرس في الأرض لكي يحفر طريقا آمنا إلى ريّان. مترا بعد آخر، ثم سنتمترا بعد آخر كان الأمل، لا الأظافر، هو الذي يحفر.

المئات احتشدوا من حول ذلك البئر. نسوا الراحة لخمسة أيام. نسوا النوم كما تجاهلوا الطعام الذي صار يوزع من دون حساب.

أهل تلك القرية في شفشاون فقراء. ولكنهم قدموا لفرق الإنقاذ ومواكب الصحافيين ومحطات التلفزيون وللمتعاطفين الذين تقاطروا من كل أرجاء البلاد، كل ما توفر لهم من زاد. الذي كان يملك شاة ذبحها، والذي كان يملك لبنا أعطاه، أو طحينا فخبزه. وما وفّر أحد حتى لأطفاله شيئا من أجل إطعام الجمهرة الواسعة، حبا بريّان، بل حبا بكل من جاء تضامنا مع ريّان. النسوة يطبخن ويخبزن، وظل الطعام وأرغفة الخبز عالقا بالأمل، ولخمسة أيام كان الأملُ هو الطعام. وإذ غاب النوم عن الأعين، فقد خارت قوى الكثيرين ليُسقطوا في بئر الإعياء وهم يتضرعون بأن تكون الليلة أو التي بعدها هي ساعة العرس الذي يحمل ريّان مبتهجا بالنجاة.

السلطات التي خشيت من تقاطر الآلاف، أوقفت سيارات الزائرين على مبعدة من المكان. والكثير منهم تركوا سياراتهم في العراء ليقطعوا الطريق مشيا على الأقدام.

المغاربة، في تلك اللحظة الطويلة، كانوا كلهم أماً وأباً وأخاً، لهذا الطفل. وكان محسوسا أن العاهل المغربي الملك محمد السادس يُلقي بظلال الرعاية والمتابعة على العملية بأسرها. الكل كان يراه موجودا، وكان يعلم كيف تتحرك الأصابع شبرا بعد شبر. ولعله ما ذاق طعاما ولا نام، بأكثر مما فعل الواقفون على مشارف الأمل.

نعم، صحيح. يموت لنا أطفالٌ كثر، بمآسٍ أشد أو سواها، في غير مكان. ولكن جمرة التضامن التي اتقدت قالت لكل طفل في العالم العربي إن لك نصيبا من دفئها. وإن لحياتك في قلوب الملايين مكانا صار، من بعد ريان، أعزّ مما كان.

وساعة انهار الأمل، وعم الصمت والحزن، برز ذاك المليك وكأنه كان في الإسعاف التي أقلت الجثمان، فكان أول مَنْ ووسي بالنبأ المفجع، وأول مَنْ واسى به الوالدين، كما واسى المغاربة من بعدهما، وأول من أحاط البلدة بالتضامن والرعاية لإعادة البناء.

فماذا فعل ريّان؟

كسب المغاربة وحدتهم كأسرة. ذابت أمانيهم ومشاعرهم مع بعضها حتى صار لكل أم وأب فيها، ريّان. ولهم راعٍ، إذا كان لا يقدر أن يردَّ القضاء، فقد وهبه صاحب القضاء ما يتلطف به على شعبه، فيخفف وطأة الأحزان.

الجزائريون، وهم أهل جوار، تضامنوا حتى لتستغرب أنه كان هناك نزاع بين حكومتين. والنزاع الذي كان بوسعه أن ينذر بالشؤم، لم يعد ممكنا. اكتشف الجزائريون أنهم على قلبٍ واحدٍ مع إخوتهم المغاربة. حكّوا صدأ الخصومة، ليكتشفوا أن لهم في المغرب قلبا ينبض، فإذا سقط في بئر هبوا إليه، وإذا مات بكوه، كما يبكيه أهل شفشاون. حتى لم تعد الحرب بين البلدين احتمالا قائما ولا حتى في الخيال.

دعوات التضامن الخليجية التي أغرقت شفشاون بالهدايا والتبرعات، إنما قالت لأطفال الخليج، أن أهنأوا بالحب نفسه وبالأمان. تلك هي صورة ريّان، كما أشرقت هناك.

إسرائيل لم يعد بوسعها أن تقتل محمد الدرة مرة أخرى. صار الثمن باهظا للغاية. فالمشاعر التي التهبت من أقصى أركان العالم العربي إلى أقصاه في حينها، صار لها ريّان يمكن أن يقلبها جحيما على طائرات ومدافع ورصاصات الاحتلال.

صورة ريّان تجعل كل الأطفال الذين يتضورون جوعا في لبنان، علامة خزي وعار على أهل حكمٍ بددوا أموال بلادهم بالفساد حتى ضاق بهم الفساد. بعض اللبنانيين صرخ بالقول إن لنا في المغرب مَنْ يُحرّك الجبال من أجل طفل، بينما يجوع الأطفال في لبنان، ولا تتحرك الضمائر ولا اللحى، ولا ندت الجباه.

والذي أهنأ سلطته بقتل الأطفال، تُسائله الظلالُ الآن: كم من ريّان قتلت ببراميلك، يا..؟ وكم من ريّان ستقتل لتبقى في “محور المقاومة” جالسا على كرسي تهشمت أرجله. وقد تحسب الفوز برميلا، إلا أنه إذ ينصب على رؤوس أطفال، فإنهم بالانتظار، لتنقلب من برميل جحيم إلى سواه. أفهل غاب ريّان؟ أفلم تره، أم أغلظت كثرة الموت قلبك فلم تعد تشعر، يا…

وللولي الفقيه حكايات وحكايات مع ريّان وريّان، ما تزال تمضي برُسلها على طول المسافة بين “العواصم الأربع” التي سقطت في بئر الطائفية الذي لم يخرج من مآسيه أحد حتى الآن.

ولكن الجريمة التي باتت من مألوف الأيام، لن يعود بوسعها أن تضحي بالمزيد، أو أن تُغرق بالفشل والجوع والحرمان ملايين الأطفال، من دون أن تكون ظلال ريّان مرئية في كل مكان تغزوه عصابات وميليشيات تزعم الحق وهو باطل.

كل الذين بعمر ريّان الآن، هم ريّان. والأيدي التي كانت تسترخص زجرهم أو انتهاك حقوقهم، صار يتعين أن تحسب للدموع حساب.

بعض الصحافة يتفوق بما هو أكثر من مجرد الفوز بسبق وسط زحام الكاميرات. مراسلو “قناة الغد” الذين باتوا في العراء، وغرفتا الأخبار في القاهرة ولندن، أجهشوا بالفجيعة لحظة نقلوا خبر الفجيعة، فقدموا نموذجا تمازج فيه نقاء الروح بالمهنية والإتقان.

رحل ريان، إلا أنه تحول إلى غيمة حبٍ أحيت معاني الطفولة التي غلظت عنها القلوب، أو غلبت عليها المرارات.

وجمرة التضامن بين أرجاء هذه الأمة، أحيت لوحدها حكايةً لم يردمها الرماد.

طفل واحد أبكانا، إنما لنبكي الذين لم نبكهم بعد.

الأم المفجوعة قالت “إنه قدرنا، والحمد لله”.

الحمد لله الذي تحتاج أن تكون رائد فضاء لتعرف بعضا من حكمته. زرعَ الأملَ وسقاه بالحزن، ليُحيي ما جعل كلَّ ذي طفلٍ بعمرِ ريّان لا يقوى على النوم إلا ويراه.