كتابات وآراء


السبت - 02 ديسمبر 2023 - الساعة 01:49 ص

كُتب بواسطة : د. عيدروس نصر - ارشيف الكاتب



عندما صاغ الشاعر الجاهلي ثابت بن أواس الأزدي المعروف بــ"الشنفرى"، وينطقه العامة "الشنفرة" أو "الشنفره"، عند ما صاغ نصه الشعري الأشهر لامية العرب:

أقيموا بني أمي، صدورَ مَطِيكم
فإني إلى قومٍ سِواكم لأميلُ!
فقد حمت الحاجاتُ، والليلُ مقمرٌ
وشُدت لِطياتٍ مطايا وأرحُلُ
وفي الأرض مَنْأيً للكريم عن الأذى
وفيها، لمن خاف القِلى مُتعزَّلُ
ولي دونكم، أهلونَ سِيْدٌ عَمَلَّسٌ
وأرقطُ زُهلول وَعَرفاءُ جيألُ

عندما قالها كان يعلن القطيعة مع قبيلته وأهله وذويه، ليس لعيبٍ فيه أو لحاجةٍ تخصه وحده، بل لأنه كان يسعى لقطع الصلة بصورة نهائية مع حياة الإيذاء والتمايز الاجتماعي والبغضاء والكراهية، حيث يتحكم فيه الأثرياء بالثراء إلى الأبد، ويحتكر الفقراء فقرهم دون أن ينال هذا الفقر من غيرهم.

الشنفرى أحد الشعراء الصعاليك المشهورين في العصر الجاهلي، وربما يحتاج تناول قصتهم إلى دراسة منفردة أكثر عمقاً، لكن ما يهمنا هنا هو إنهم مجموعة من الشعراء المبدعين شعراً والمتميزين اجتماعياً بانتماءاتهم القبلية والعشائرية ولكن أيضاً بتمردهم على أوضاعهم وسعيهم لتغيير العلاقات الإنسانية في زمنهم من خلال هجر أقوامهم وشن الغارات الهادفة الاستحواذ على ما يمكنهم من أملاك الأثرياء لتوزيعها على الفقراء، فأصبحت مفردة "صعلوك" تعني الشخص الذي يأخذ من الأغنياء لإسعاد الفقراء، بعكس ما يتداول العامة هذه الأيام بتأويل مفردة "صعلوك" على إنها شتيمة وتعني سيء الخلق، قليل التهذيب، والفوضوي المستهتر.

وبالعودة إلى قصة الشاعر الشنفرى فإن نصه الشعري المشار إليه أعلاه وهو جزء قصير من "لامية العرب الشهيرة" إنما كان يعبِّر عن يأسه في إمكانية تعديل وضع مجتمعه، العشائري والقبلي من خلال التعايش معه، ولذلك اختار الاعتزال عن هذا المجتمع والبحث عن مجتمعٍ أقل ظلماً وأكثر عدلاً.

"وفي الأرض مَنْأيً للكريم عن الأذى
وفيها، لمن خاف القِلى، مُتعزَّلُ"

والقِلى هنا هو الحقد والبغض والكراهية وهي ظواهر بشرية ملازمة لكل زمانٍ ومكان، فالرجل لا يبحث عن الرفاهية الشخصية، ولكنه كريمٌ يرحل عن الأذى واعتزال الحقد والبغضا.

وعموماً فإن نزوح المثقف أو رحيله، أو "تَعَزُّلَهُ" كما يقول الشنفرى، ليس مجرَّد انتقالٍ مكانيٍ يلوذ من خلاله المثقف النازح بجسده، ولا حتى بروحه وذهنه من مكان إلى مكان آخر، ومن قومٍ إلى قومٍ آخرين، بل إنه فلسفةٌ روحية وفكرية واجتماعية،٠ فيها ارتحالٌ من القيم والعلاقات، التي أصبحت قيوداً على حياة المبدع والإنسان بعامةٍ، وأصبح هو في حالة صدامٍ لا يقبل التسوية النصفية معها.

وهكذا فلكل زمانٍ ومكانٍ شنفراه، أو إن الشنفرى ليس حالةً فريدة تخص الزمن الجاهلي وحده، بل إنه حالة أزلية تتكرر في عشرات الأمكنة والازمنة، حتى في زمن التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي و SMS و EMAIL, كما راينا الشاعر وهو يبعث رسائل التقنيات الحديثة إلى كل من الشنفرى وامرئ القيس وطرفة والمتنبي وغيرهم

ربما أكون قد أطلت في هذه المقدمة، لكن ما دفعني إلى هذا هو رغبتي في استبطان ما احتواه الديوان الشعري لصديقي الأستاذ د. سعيد الجريري الذي شرفني بإهدائي نسخة منه والذي عنونه بـ" من يوميات الشنفرى في Netherland".

كثيرون من المثقفين والسياسيين الجنوبيين لا يعرفون الدكتور الجريري إلا كناشط سياسي بارع ومدافع متميز عن القضية الجنوبية وعن حق الشعب الجنوبي في نضاله الطويل ، حقه في استعادة دولته الجنوبية بالحدود الدولية المعروفة ما قبل مايو 1990م، وهذا الأمر يحتاج إلى وقفة خاصة، لكن ما لا يعرفه الكثيرون من هؤلاء هو إن الدكتور الجريري شاعرٌ وناقدٌ أدبيٌّ وأستاذٌ جامعيّ للأدب والنقد، وقد بقي عضواً في المجلس التنفيذي لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، حتى اليوم حيث لم يجدد للمجلس مؤتمراً انتخابياً بعد المؤتمر الأخير في العام 2009م الذي عُقِدَ في عظن العاصمة الجنوبية.

* * *

عندما أهداني الزميل الدكتورالجريري ديوانه الشعري المعنون بــ"من يوميات الشنفرى في Netherland"* شعرت بالظفر الكبير، فصديقي كما ألمحت، شاعرٌ وناقدٌ أدبي وماهرٌ في صناعة النص الشعري الحداثي كما التقليدي، وله إصدارات أدبية منها

1.أثر السياب في الشعر العربي الحديث.
2.شعر البردوني دراسة أسلوبية.
3.بخيتة ومبخوت، قصائد بالعامية الحضرمية.
4. بلا غيبوبة، وهو عبارة عن مقالات عن مفارقات القات .

وعن صعلكة الشنفرى يقول الدكتور الجريري في مقدمته إنها لم تكن " خروجاً عن قانون العدالة وإنما خروجاً عن استبداد اللحظة التي كانت تكبِّلهُ قوانينها الجائرة، حتى غدا إلى قومٍ سوى بني أُمِّهِ أميلَ" ( الديوان ص ٩).

لم يكن اختيار الدكتور الجريري لعنوان مجموعته الشعرية "من يوميات الشنفرى في Netherland" اعتباطياً، بل إن لحظة اختيار العنوان تمثلُ عملية إسقاطٍ لحالة الشنفرى وزملائه من الشعراء الصعاليك على جميع حالات النزوح القهري التي يتعرض لها المثقف الرافض لقوانين الجور والضيم والتحكُّم بالآخرين ومصائرهم باستخدام القوة القاهرة، فيكون النزوح بحثاً عن الحياة الخالية من القيود حتى ولو كان الصحاب في هذا النزوح هم الذئب والأفعي والضبع وغيرها من الكائنات المتوحشة.

إن الكريم لا يغادر بني أمه بلا أسباب بل حينما تكون المغادرة أفضل من البقاء بينهم، وحينما تكون الحياة في الـ"مُتَعَزَّل" أكثر أماناً وحريةٍ من الحياة بين الأهل والصحاب من بني القوم، وحسبي أن كل فردٍ من النازحين قهراً عن أراضيهم وأهاليهم، ما إن يقرأ مجموعة الدكتور سعيد ويقرنها بقصة الشنفرى وزملائه من الشعراء الصعاليك، حتى يجد نفسه متجسداً في هذه الحالات بشكلٍ أو بآخر،حيثما يجد في هذه النصوص ما يعبر عن حالته كنازحٍ في بلادٍ غريبة لا يجمعه بها وبأهلها وبزمانها ومكانها إلا الشعور بالأمان، والتخفف من قيود وأغلال التمييز والتفاخر والاستعلاء، ومن كل ما يهدد الحرية وقبلها الحياة.

من خلال محتوى المجموعة الشعرية يكتشف القارئ أن د. سعيد قد رتَّب نصوصها ترتيباً زمنياً رغم عدم إشارته إلى زمن كتابة النص، حيث يبدأ الديوان، بعد المقدمة بعدة قصائد أسماها "في الطريق" أوَّلُها نصُّه "في الطائرة إلى Amsterdam"، يليه نص بعنوان"في القطار إلى Ter Apel" ثم "في الحافلة إلى Overloon" ، والاسمان الأخيران هما لمركزين من مراكز استقبال طالبي اللجوء.

وبعد الاستقرار في أفرلون، يبدأ الشاعر بترتيب قصايده بعنوان "يوميات Overloon " ومنها قصيدة "في الغرفة 310" ونصوص أخرى تتخذ عناوين بسيطة منها "أشجار الغابة"، "الممشى"، ليواصل بقية النصوص التي تتغنى بالطبيعة والطباع، . . .الطبيعة الهولندية الجميلة وطباع الهولنديين الراقية التي لم يألفها شنفرى الزمن القديم ولا حتى شنفرى اليوم لا بين بني أمِّهِ ولا في أيِّ مكانٍ آخر.

تكتظُّ قصائد المجموعة بكتلة من المشاعر الإنسانية التي يختلط فيها الشعور بالغربة ومعها الحنين الذي يعبر الزمان والمكان إلى الشنفرى القديم وطرفة بن العبد وتميم بن مقبل، وامرئ القيس والمتنبي، وإلى حضرموت وصحراء العرب، شعورٌ مصحوبٌ بالدهشة والإعجاب والتعجب مما تختزن الطبيعة وما يبديه البشر في هذه الغربة غير المتصورة مسبقاً.

في قصيدته " في القطار إلى Ter Apel" نلمس ذلك الشعور الذي ينتاب الغريب في بلدٍ غريب ينتقل عبر القطار غريباً من منطقةٍ غريبة إلى منطقة غريبة أخرى، ويمكننا استحضار ما ينتاب هذا الغريب من توقعات ومخاوف وقلق من المنتظر المجهول، لكن الشنفرى الجديد كان يراهن على عدالة هؤلاء الغرباء الذين صنعوا هذا الفردوس الأرضي على أرضهم الدنيوية:

"ها أنت وحدك
في طريقٍ
لست تعرف منتهاه
الريح تعوِل
في فيافي الجنة الخضراء
وحدك في الطريق
إلى قطارٍ لست تعرف من خُطاه
شيئاً سوى
Zolle تسلمك إلى Emmen
حيث الكامب،
والغرباء مثلك
بانتظار عدالة الغرباء
ها أنت وحدك . . ." (الكتاب ص ٢١-٢٤).

و Zolle وEmmen اسمان لمحطتي انطلاق ووصول القطار من امستردام إلى "الكامب"، وهو المعسكر الذي يستَقبَل فيه طالبو اللجوء قبل معالجة ملفاتهم والبت في طلباتهم واتخاذ القرار بشأنها بالرفض أو القبول.
وتستمر الدهشة المصحوبة بالتعجب في الاستحواذ على شعور الشاعر في "اليوم الثامن" ليدهشنا معه:

"كَأنَّ الله
-جلَّ الله-
أنشأ خلقَهُ أمسِ هنا
ثمَّ استَوى
فَتَبَارَكَ الرَّحمَنُ ثُمَّ تَبَارَكَ الرَّحمَن
كَأنَّ الشَّنفَرَى
فِي ثَامِنِ الأَيَّامِ
لَا يَدْرِي
أكانَ الله فِي الصَّحْرَاءِ
حّيْثُ الوَحْيِ والقُرآن
أَم فِي ما يَرَاهُ الآن
إنَّ الشَّنْفَرَى إنْسَان!" (الكتاب ص 53).

إن الله هنا وفي كل النصوص الدينية والأدبية وحتى التاريخية والسردية هو عنوان العدالة والعطاء والكرم وتبجيل مكانة الإنسان والإعلاء من شأنه.

لكن الشاعر وجد الله هناك حيث لا يدَّعي أحدٌ أنه يحتكر وكالة الله وحيث لا أحد يثرثر باسم الله ويقود الناس إلى حيث يبغي هو باسم الله، وربما قلَّما وجده في تلك البلاد التي ما ينفكّ أهلها يتغنون باسم الله ثم لا يجسدون ما يدعو إليه وما يدل على تمثلهم إياه.

القارئ لديوان شاعرنا المبدع د. الجريري سيجد الكثير من المتعة والإبداع والابتكار فنجدهُ يستدرج شعرء الجاهلية والإسلام المبكرين عبر رسائل S.M.S ينِثُّ من خلالها دعواته لهم حيناً أو اعتراضه على بعض دعواتهم حينا آخر، ويجالسهم طويلا متحدثاً إليهم متقاسماً معهم معاني الاغتراب حيناً ثالثاً، فهو في رسالته (الـ S.M.S) إلى أبي الطيب المتنبي، معلقا على حكمته المشهورة

"إِذَا تَرَحَّلتَ عَن قَومٍ وقَد قَدرُوا
ألَّا تُفَارِقَهُمْ فَالرَّاحِلُونَ هُمُ"
يمضي مخاطباً أبا الطيب:
"جِدًّا صديقي الطيب المتنبي
... كم ذا "هُمُ"؟!
منذُ ترجَّل حلمك العربي
وقد "غدروا"
كم ذا "هُمُ"!؟
ـ كثروا وضاق الأفقُ جِدًّا سيدي
والراحلون هُمُ" (الكتاب ص 81).

يمكن أن يقال الكثير عن هذه التحفة الشعرية الجميلة للصديق الشاعر والناقد الأكاديمي والشخصية الوطنية المعروفة د. سعيد الجريري، لكنني أكتفي بهذا القدر من الخواطر المتناثرة عن هذه المجموعة الشعرية وأترك للمتخصصين والنقاد وأساتذة الأدب والنقد ليقولوا كلمتهم.

وأزجي تحياتي للدكتور سعيد مشيراً إلى أنه وبجانب هذه المجموعة الشعرية أصدر من أمستردام كتابا شعريا باللغة الهولندية، وهو ما يعني أن شاعرنا قد تمكن من هذه اللغة التي ليس من الهين إتقانها في هذه الفترة الزمنية القصيرة.

* سعيد الجريري، من يوميات الشنفرى في Netherland, شعر، فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، 2015م.