كتابات وآراء


السبت - 02 ديسمبر 2023 - الساعة 01:45 ص

كُتب بواسطة : د. يوسف سعيد - ارشيف الكاتب



عندما كان نشاط ميناء عدن مرتفع نسبيا، وتاتي عبره الواردات المحلية، كان الميناء يؤثر إيجابيا على الكثير من القطاعات المرتبطة به ، بشكل مباشر وغير مباشر، سواء في قطاع النقل أو التجارة أو القطاع السياحي والخدمي وورش صيانة الناقلات والمطاعم ومكاتب النقل ومحطات البنزين.

هذه القطاعات والوحدات وغيرها من الأنشطة كانت تنتعش بانتعاش أعمال الميناء، عدا عن ارتفاع مستوى الحصيلة الجمركية والضريبة التي كانت ترفد الموازنة العامة للدولة بأكثر من ترليون ريال، خاصة عندما كان النفط المستورد لليمن يمر عبر ميناء عدن .

ولكن عندما تحول أكثر من 75 في المائة من الواردات، بما في ذلك واردات النفط إلى ميناء الحديدة جفت موارد ميناء عدن وتأثرت كل هذه القطاعات الاقتصادية بشكل سلبي، وفقد العديد من الأفراد وظائفهم.

وهنا أود التأكيد أن تحول الاستيراد عبر ميناء الحديدة بعد أن سمح التحالف بذلك على هذا النحو وبهذه النسبة المرتفعة، لم يكن اختياريا من قبل التجار المستوردين، ولا بسبب التفضيلات التي يحصلون عليها في ميناء الحديدة مقارنة بميناء عدن، ولم يكن كما يعتقد البعض أنه كان هروبا بسبب زيادة سعر الدولار الجمركي.

ولكن بشكل رئيس، يعود إلى أن سلطة صنعاء أجبرت التجار من خلال إلزامهم بالتوقيع على تعهدات بالتوقف عن الاستيراد عبر ميناء عدن، والاستيراد فقط عبر ميناء الحديدة، ولم تترك لهم الخيار ، وهذا يعني أنه لم يكن ناتجا عن تنافسية ميناء الحديدة، مع التأكيد أنه على رغم انخفاض سعر الدولار الجمركي هناك والذي بقى على حاله عند 250 ريالا الذي قد يكون جاذبا، لكن هناك يدفعون التجار الضريبة الجمركية بنسبة 100 في المائة، بينما الضريبة بميناء عدن كانت تساهلية، بدليل أن نقاط الجمارك التي نصبت في منطقة الراهدة وغيرها من المناطق التي تقع تحت سلطة صنعاء كانت تأخذ فارق الضريبة: بين الضريبة الجمركية المحددة بالقانون والضريبة الفعلية المستلمة في ميناء عدن بموجب الإقرار الجمركي .

هذا عدا سرعة المعاملات في ميناء عدن، لوجود الرافعات الثقيلة كانت هي الأفضل والأسرع، وهذا ما يستحسنه التاجر، لأنه يقلل من التكلفة، بدليل أن التجار ينتظرون في ميناء الحديدة أياما أكثر لم تكن بالحسبان من أجل تخليص بضائعهم .

واستطرادا، وعندما يتعلق الأمر بتعمق الأزمة الاقتصادية والمعيشية في مناطق سيطرة الشرعية وارتفاع حجم التحديات فإن تعاظمها مع حجم الركود الاقتصادي الذي أصاب قطاع العقار بمقتل ، والاخير كان يوظف عشرات الآلاف من العمال الأكثر فقرا والأقل تأهيلا ، الذين كانوا يعملون في ظل رواج قطاع العقار، وقد تسبب هذا الوضع في تراجع كبير في دخول مختلف أصحاب عوامل الإنتاج، بدءا من تدني عوائد مصانع الإسمنت والتي تراجعت مبيعاتها بنسبة 40 في المائة تقريبا، ونفس الحال في توقف أعمال المقاولات وعوائد منتجي الأحجار والبردين والكري والنيس، وفقدان سائقي ومالكي الشاحنات دخولهم، والذي جاء على إثر الركود العميق الذي شهده ويشهده قطاع البناء وفي عدن تحديدا، انعكس ذلك على تدني دخول أصحاب البقالات والمطاعم وغيرها من الأنشطة الخدمية التي وجدت نفسها متعثرة وبنسبة كبيرة جدا، وانتقل جزء كبير من العاملين وسيارات النقل إلى مناطق أخرى، وبعضهم عرض شاحناته وانشطته للبيع وبأسعار بخسة، مع ركود او توقف أنشطة البناء في مدينة عدن .

وعلى الرغم أن الركود الذي يشهده قطاع العقار يعود لعوامل خارجية بشكل رئيسي ، بعد أن وجه المغتربين تحويلاتهم التي كانت تسهم بنسبة كبيرة في إنعاش ورواج قطاع العقار في بلدهم إلى الاستثمار في مناطق عملهم بعد أن فتحت السعودية الأبواب والفرص أمام المغتربين العاملين في بلادها للاستثمار في المناطق الصناعية والمدن السكنية الضخمة التي شرعت في بنائها وفق رؤية المملكة 2030 .

لكن الإجراءات التنظيمية والأمنية التي اتخذت في عدن، والتي منعت أصحاب عوامل الإنتاج من بيع مدخلات قطاع العقار إلا عبر رخصة من الجهات الأمنية، وشددت إجراءات منع البناء إلا عبر رخصة ، عملياتها معقدة، ومكلفة ضاعفت من ركود قطاع البناء.

هذا الوضع انعكس سوءا على النشاط الاقتصادي المرتبط بعمل قطاع البناء والتشييد ، كما حدث ذلك في المرافق التي تتأثر سلبا وايجابا بميناء عدن.

غياب الرؤية

مع تأثر قطاع العقار سلبا بعوامل خارجية كان ينبغي أن تكون المعالجة مختلفة تماما لا أن تزيد التحديات أمام القطاع والمشتغلين فيه .

كان يتعين أن تكون أمام الدولة والمجالس المحلية رؤية اقتصادية لمعالجة الصعوبات والتقليل من حجم ركود قطاع البناء، تتجه لتوفير الحوافز التي تضمن استمرار وتشجيع نشاط قطاع العقار مع تراجع تحويلات المغتربين.

اقول هذا رغم إدراكي لأهمية تنظيم عمليات البناء، لكن رغم أهمية هذا الجانب ومنطلقات الإجراءات إلا أن العملية اخذت بعدا أمنيا ، عمدت على عسكرة قطاع البناء، وفاقت الإجراءات كل الحدود في هذا السياق ، أصبح معيار نجاح الحملة الأمنية من وجهة نظر القائمين تنصب في كم حجم البناء الذي قمنا بتوقيفه ولا شيء ٱخر، وهذا مؤسف .

واجمالا فإننا نستنتج أن الأزمة الاقتصادية الحالية والآثار الاجتماعية والمعيشية التي ترتبت على تراجع نشاط ميناء عدن والتي ترافقت وتعززت مع تراجع قطاع العقار قد انعكست على انخفاض الطلب الكلي والقطاعي، وعندما نضيف لهذه العوامل تآكل دخول الناس مع تدهور سعر الصرف، فقد أدى ذلك وفق علم الاقتصاد إلى تراجع الاستهلاك الكلي وبالتالي تراجع الناتج المحلي الإجمالي للبلاد .

والمفارقة أنه يحدث ذلك في ظل توقف عوائد صادرات النفط التي تمول موازنة الدولة بالموارد وتصرف على رواتب موظفي الدولة، وكانت محصلة كل هذه العوامل أزمة اقتصادية واجتماعية ومعيشية خانقة وغير مسبوقة .

وفي الأخير، أرجو أن تراجع الحكومة والجهات المختصة في عدن على وجه الخصوص إجراءات منح رخص البناء وإزالة التعقيدات والمعوقات التنظيمية والأمنية، وتقليل تعدد الجهات المسؤولة عن منح التراخيص، وترك الناس تنتج وتبيع وتشتري بكل حرية وأريحية، بقليل من القانون وبكثير من العمل.

ولن يتاتى ذلك إلا في ضوء دراسة اقتصادية سريعة وجادة لمعرفة الآثار والأضرار الاقتصادية والمعيشية التي ترتبت على هذه الإجراءات مع تراجع قطاع العقار والأنشطة المرتبطة به، التي كانت تعمل وتؤمن مدخلات قطاع العقار .

ولأن الشيء بالشيء يذكر ، فإننا نرجو من إدارة ميناء عدن أن لا تبقى متفرجة ولابد من ديناميكية، في هذا السياق نقترح أن تجري تقييما اقتصاديا وإداريا وماليا لعمل ميناء عدن في ظل المتغيرات التي حدثت ومعالجة الأسباب التي أدت إلى زيادة تراجع نشاط وعوائد ميناء عدن. ويجب أن يتم هذا التقييم بالتنسيق مع وزارة النقل وترفع نتائج التقييم مع المقترحات اللازمة إلى مجلس الوزراء بإتجاه معالجة وتوفير الحوافز وزيادة عمليات الجذب التي تؤمن إعادة نشاط ميناء عدن، وإن بحده الأدنى، إلى أن يفرجها الله من عنده، إنه السميع العليم .

د.يوسف سعيد احمد