كتابات وآراء


الأحد - 17 أبريل 2022 - الساعة 11:55 م

كُتب بواسطة : علي الصراف - ارشيف الكاتب


أمضت ستيفاني ويليامز مبعوثة الأمين العام للأمم المتحدة أكثر من عام وهي تحاول إيجاد تسوية للأزمة في ليبيا. وها هي الأزمة عادت إلى المربع الأول. والسبب هو أن ويليامز، كما غيرها من مبعوثي الأمم المتحدة، يأتون إلى الأزمات من وصفات جاهزة، تقوم على قوالب مفاهيم، صحيحة دائما، وتنطبق على كل زمان ومكان، إلا أنها تعمى عن الواقع وتفاصيله الصغيرة، وتنطلق من مقاربة “محايدة” تعرف الصواب، ولكنها لا تؤسس له، ولا تدافع عنه، ولا تضمن له مسارا تنفيذيا ملزما.

الجهود التي قادتها ويليامز أسفرت في النهاية عن تشكيل حكومة يترأسها عبدالحميد الدبيبة، وها هي تكشف عن نفسها كحكومة ميليشيات. عارية تماما.

ولئن تم وضع شروط وواجبات لكي تنهض بها هذه الحكومة، كان الأساسي فيها هو إجراء الانتخابات، فقد أخلت هذه الحكومة بهذا الواجب، وظلت، بعجب عجاب، تحظى باعتراف الأمم المتحدة كحكومة شرعية، حتى بعد انقضاء مدة ولايتها.

وللمزيد من السخرية، فقد كان أحد أهم شروط تشكيلها، هو ألا يترشح أعضاؤها إلى أي منصب بعد انتهاء ولايتهم، وألا يشاركوا في الانتخابات، طالما أن واجبهم كطرف محايد يقتضي إعداد الظروف المناسبة لتنافس نزيه بين فرقاء الأزمة.

الدبيبة نقض هذا الشرط. وظل يتباطأ في توفير مستلزمات إجراء الانتخابات، لأن داعميه، ممن لا تغفل عنهم ويليامز، كانوا وما يزالون لا يريدون إجراء الانتخابات أصلا.

فإذا وجدت نفسك في حاجة إلى مزيد إضافي من السخرية، فإن واجب ترحيل المرتزقة لم يتم أيضا.

الطريق الذي سلكته ويليامز لم يكن سهلا لأن أطراف الحوار كانت تُظهر شيئا وتضمر آخر، وتتوافق على مبدأ، ثم تحرص على تعطيله. ودائما ما كانت هناك تفاصيل صغيرة تنشأ لكي تقلب التوافق إلى تنازع. وفي مرحلة من المراحل تبين لها أن الطريق قد فسد عندما دخل مندوبو المنتدى الذين خاضوا الحوار سوق النخاسة لبيع أصواتهم لمن يدفع أكثر.

في تلك الساعة كان يجب وقف أعمال ذلك المنتدى، أو على الأقل، طرد الذين باعوا أصواتهم وخانوا الأمانة. إلا أنها، لأسباب محض شخصية، لم تشأ أن تعترف بالفشل. فخانت بدورها الأمانة التي أنيطت بها.

سوف يكون بوسع ويليامز أن تقول إنها وفرت الحلول الإجرائية لانتخاب القائمة التي تصدرها محمد المنفي والدبيبة، ولم تتدخل لصالح أي طرف، ولكن ما لا يسعها نكرانه الآن هو أن أيا من القائمتين المتنافستين كانت سوف تنتهي إلى الشيء نفسه. وهو أن تعود لتكون حكومة ميليشيات، لا حكومة مرحلة انتقالية تؤدي واجبات انتقالية وتكرس نفسها لها، دون أي اعتبارات أخرى.

الخلل الرئيسي، هو أن المفاهيم التي جعلتها تتصرف بحياد، كانت أعجز من أن ترى ما يقف خلف ستائر الواقع؛ أعجز من أن تضع قواعد صارمة لمتابعة المسار “الصحيح” وضمان تنفيذه، خطوة بعد أخرى. ثم أعجز من أن تقول كلمة الحق في التجاوزات “الصغيرة”، والاختلالات التنفيذية التي يتسرب منها التخريب.

بنت ويليامز سفينة الحلول، ولكن تركت فيها كل الثقوب التي تكفل إغراقها، وسمحت بالمزيد منها، ورأت كيف صارت تتسع. وها هي الآن تغرق. وبدلا من أن تكون حلا، صارت مشكلة.

الدبيبة الذي كان يبدو وكأنه من المستقلين، صار رئيس حكومة ميليشيات، ينشر آلياته العسكرية وأسلحتها الثقيلة، ليس لمواجهة غزو روسي محتمل لاحتلال ليبيا، ولكن لمواجهة حكومة انتخبها مجلس النواب بعد انقضاء مدة ولايته.

كان من الأولى بالأمم المتحدة أن تعلن عن نهاية التكليف، بما أنه كان مشروطا بانتخابات لم تحصل، وبمدة انقضت، وبآليات ترشيح لم تُحترم.

لا توجد مشكلة في التشكيك بأهلية مجلس النواب، باعتباره طرفا في الأزمة. المشكلة هي أن الأمم المتحدة لم تمسك بزمام المبادرة، لا في ضبط مسالك حكومة الدبيبة لتؤدي ما كان عليها تأديته، ولا في الدعوة إلى تشكيل حكومة توافقية، ولا دعوة منتدى الحوار الذي باض حكومة الدبيبة لكي يبيض حكومة أخرى.

البيضة فقست عن ميليشياوي. وكان يمكن لبيضة أخرى أن تفقس ميليشياويا آخر، يتستر بأنه “مستقل” ويبلط البحر بالوعود الفارغة، ثم يفعل شيئا آخر.

هذا أمر طبيعي في بلد مأزوم، منقسم، ويخوض نزاعا أهليا يجعل الكل فيه منحازا إما لقبيلة وإما لمنطقة، وإما لولاءات ومصالح شخصية.

ما ظل غائبا في تفقيس بيضة الوصفات “الصحيحة دائما”، هو أن “الكتكوت” ظل فالتا من عقاله، لأن العقال لم يوضع له أصلا، ولم يُربط به، لكي لا يعود إلى ولاءاته ويتخلى عما كان يجب أن يؤديه.

هذا الشيء نفسه يمكن أن يتكرر في اليمن. سوف يعمل المبعوث الأممي على إقامة حكومة “وحدة وطنية”، تفقس عن ميليشياوي آخر يزعم أنه “مستقل”. ولسوف يقال له إن “الديمقراطية هي الحل” وإن “السلام يتطلب تقديم تنازلات متبادلة”، وإن “الحرب ليست خيارا”، إلى آخره من الصياغات الصحيحة دائما. ولكن لن تكون هناك آلية تنفيذية مُلزمة تملي على الحكومة أن تسير بموجبها، ولا أن تكون هناك التزامات صارمة من جانب الأمم المتحدة بأن يمضي التنفيذ إلى النهاية حسبما هو مخطط له، ولا أن تكون نتائج هذا المسار مضمونة من ناحية القبول بها من كل الأطراف.

حكومات “الحلول الانتقالية” ما لم تكن محكومة بالتزامات صارمة، تبلغ مستوى العقوبات الجنائية، فإنها لن تكون سوى وصفة للفشل، وذلك بما تفتحه من ثغرات في السفينة.

لقد أمضت الولايات المتحدة عشرين عاما في أفغانستان، من دون أن تتمكن من إقامة حكومة تقدم للشعب الأفغاني ما يجعله يدافع عنها أو عن مؤسساته.

تركت كتكوت الفساد يسرح ويمرح. وحيثما لم تتحول المفاهيم الديمقراطية إلى مؤسسات وطنية راسخة، فقد أصبحت عودة طالبان أمرا طبيعيا، يتوافق على الأقل مع المفاهيم السائدة للشريعة الإسلامية.

الشيء نفسه تكرر في العراق، حيث تم تسليم السلطة إلى ميليشيات جريمة وفساد وولاء خارجي، ففقست عن وحش كاسر للانتهاكات والاغتيالات وأعمال النهب والتخريب والتمييز الطائفي والمحاصصات التي حولت أجهزة الدولة إلى مستنقعات تتبع في عفونتها عفن الحزب الذي يسيطر عليها.

ما ظل يحصل في كل هذه التجارب، هو أن الأدوار الخارجية، سواء تصدرتها قوة عظمى، أو الأمم المتحدة، لا تنظر إلى الواقع من خلف ستائر التعهدات الفارغة التي يمكن أن تدلي بها أطراف النزاع.

والفشل الأكبر هو أن هذه الأدوار لا تفهم أن مجتمعات تخوض نزاعات أهلية، لا يوجد فيها مستقلون. وإن وجدوا، فإن تركهم من ضوابط ومسارات تنفيذية صارمة، سوف يؤدي بهم في النهاية إلى الانحياز لطرف دون آخر، فتعود الأزمة إلى المربع الأول.

دبلوماسية الأمم المتحدة ما تزال بدائية إلى درجة مروعة. هذا ما يجب الاعتراف به. فهي ما تزال تتأثر بوصفات مسبقة، وتنطلق من قراءة سطحية للواقع، كما تتأثر بالاعتبارات الشخصية أيضا. إلا أن الأهم هو أنها تفتقر إلى مدونة أعمال تنفيذية، تضبط مسارات أي صراع، وتجبر أطرافه على الالتزام بها. وما يبدو دورا أخلاقيا يؤديه مبعوثو الأمم المتحدة، عندما تنظر إليه من نهايته، سوف ترى أنه غير أخلاقي تماما، لأنه يضع الوصفات الجاهزة في دولاب أزمة تدور على نفسها باستمرار. لا هي تُثبت صوابها، ولا هي توفر ضمانات بألا تفقس عن حلول فاسدة.