منوعات

الثلاثاء - 26 يوليو 2022 - الساعة 11:22 م بتوقيت اليمن ،،،

العرب


وجد محمد رزق نفسه مجبرا على كتابة ممتلكاته لبناته الخمس وهو على قيد الحياة لأنه لم ينجب ذكورا بعدما سمع بفتوى أصدرتها مؤخرا دار الإفتاء المصرية تبيح قيام الأب بتوزيع تركته على بناته لكون المال والعقارات والأراضي حقا له يفعل به ما يشاء دون تعارض مع الشريعة الإسلامية.


كان أكثر ما يثير مخاوف الأب أن يرحل عن الدنيا ويترك أمواله وما شيده من عقارات للعائلة ولا يتم منح بناته إلا القليل أو يتم الاستيلاء على تركته كاملة، وما إن أصدرت دار الإفتاء تلك الفتوى حتى سارع إلى تسجيل ما يملك بأسمائهن خشية أن يتعرض لأزمة صحية مفاجئة تؤدي إلى مماته في أي وقت.

قال الأب لـ“العرب” إن “عائلته تنظر إليه باعتباره كنزا، وبعضهم تحدث إليه مباشرة عن النعيم الذي سيعيش فيه أشقاؤه (أعمام البنات) بعد وفاته، حيث سيتم توزيع التركة عليهم أيضا، لأنه لم ينجب ذكرا وكل أولاده من البنات”، ما جعله يعيش خائفا على مصيرهن ومتوجسا من إذلالهن في الميراث.

أصدرت دار الإفتاء حكما شرعيا لافتا واستثنائيا أمام تعرض الكثير من النساء في مصر للقهر والحرمان من الميراث الذي أقرته الشريعة الإسلامية إما على يد إخوتهن الذكور، أو أعمامهن، حيث ترفض أغلب العائلات منحهن جزءا من التركة الخاصة بالأب بعد وفاته، رغم التشريعات القانونية التي تعاقب على ذلك.

وشن رجال دين متشددون هجوما عنيفا على دار الإفتاء ووصفوها بأنها تحابي النساء على حساب الدين والشريعة بعدما أباحت للأب كتابة تركته لبناته، لكن يبدو أن المؤسسة الدينية لم تجد قيمة للقانون الذي يعاقب على الحرمان من الميراث وتعاملت بروح الشرع فرفعت العبء عن الآباء بشأن تحريم توزيع التركة.

تعيش الكثير من الأسر في مصر صراعات طويلة بسبب الخلاف على طريقة توزيع الميراث، فهذا يحصل على أكثر من ذاك، وهذه تُحرم تماما أو تتسلم مبلغا ماليا هزيلا نظير التنازل عن الأراضي والعقارات التي تستحقها، وقد يصل الأمر إلى حد القتل وينتقم الأخ من شقيقه بسبب خلاف على الإرث.

أكد محمود شلبي أمين الفتوى بدار الإفتاء في تصريحات إعلامية أن للأب حرية التصرف في تركته في حياته، وأن التسوية بين الأولاد في العطايا والهبات أمر مستحب، والنبي محمد (ص) لم يوص بعدم توزيع التركة على قيد الحياة، بل قال “ساووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مؤثرا أحدا لآثرت النساء على الرجال”.

ويحق للشخص الواهب أن يمنح بعض أولاده عطاء زائدا أو يوزع تركته على بناته لحاجة كمرض أو كثرة أولاد أو صغر السن أو مساعدة للزواج أو مساعدة على التعليم والدراسة ونحو ذلك، فلا يكون حينئذ مرتكبا للظلم ولا إثم عليه، حيث تصرف حسب ما يراه محققا للمصلحة.

ودعم الشيخ علي جمعة مفتي مصر السابق كلام دار الإفتاء بتأكيده أن تدخل الأب بتوزيع التركة على الأبناء والبنات للحيلولة دون حدوث انقسامات أسرية أمر حث عليه الشرع، وذلك مستحب إذا كانت العلاقات الأسرية ضعيفة، وكان الأب خائفا على أولاده من الورثة، وهذا موجود في الوقت الراهن.

ويرى متابعون للقضية أن العبرة في استجابة الأسر للفتوى التي شرّعت للآباء توزيع التركة على الأبناء أن يكون الأبوان لديهما انفتاح فكري ولا يتمسكان بالمعتقدات البالية أو الموروثات الدينية والاجتماعية القديمة التي تحرّم على الأب القيام بهذا الفعل ويترك أولاده بعد الوفاة يتصرفون وحدهم وفق الشرع.

لا يزال هناك الكثير من الآباء يخشون التعامل في الميراث وفق الفتوى لشكوكهم في أن توزيع التركة على الأبناء سيدخلهم في دوامة الحرام مع أن المؤسسة الدينية هي التي أباحت ذلك، لكنهم تأثروا بالآراء المتشددة التي يصدرها شيوخ لهم نفوذ وقواعد شعبية في القرى والنجوع والمناطق الشعبية التي تتعامل بالأعراف.

هناك من يخشى الإقدام على كتابة التركة بأسماء أولاده لعدم إقحام نفسه في خلافات مع العائلة حتى لا يفهم أفرادها ذلك على أنه تخطيط مسبق لحرمانهم من الميراث بعد وفاته، خاصة عندما يكتب الأب ممتلكاته لبناته إذا لم يكن قد أنجب ذكورا، وبالتالي لا يتحصل الأقارب على شيء من إرث الأب.

وأوضح محمد رزق لـ “العرب” أن “إخوته عندما علموا بقيامه بكتابة ممتلكاته لبناته أصبحوا يتعاملون معه بقسوة وعنف، وبعضهم قاطعه لمجرد أنه قطع الطريق عليهم للحصول على أي شيء بعد وفاته”، مضيفا “فتوى إباحة توزيع التركة ستنقذ الكثير من النساء من القهر والإذلال والمعاملة القاسية بعد وفاة الآباء”.

لدى بعض الأسر المصرية قناعة بحتمية حرمان المرأة من الميراث بذريعة أنها لن تستطيع الحفاظ على ما ورثته من أراض وعقارات، وقد تتنازل عنها لزوجها، باعتبار أن النساء في نظر البعض”ناقصات عقل”، وهي الوصمة التي دفعت بسببها الكثير من السيدات فواتير باهظة وجعلت حياتهن بائسة.

يعتقد متخصصون في العلاقات الأسرية بالقاهرة أن إباحة توزيع التركة على الأبناء في وجود الآباء على قيد الحياة، من شأنه الحفاظ على كيان الأسرة من الانهيار مستقبلا بسبب الجشع والطمع والضغينة التي قد تحدث بين الإخوة والأخوات، والأهم أن يتخلى الآباء عن الميراث المجتمعي المتشدد لتقاليده لتأمين أولادهم.

وقالت عبير سليمان المتخصصة في القضايا العائلية والباحثة في قضايا المرأة بالقاهرة إن “فتوى عدم تحريم توزيع التركة على الأبناء والآباء على قيد الحياة تضع حدا للتوترات الأسرية مستقبلا، وكتابة التركة للبنات إذا لم يكن لديهن إخوة ذكورقد يوقف إذلال النساء والتعامل معهن بطريقة دونية”.

وأشارت لـ “العرب” إلى أن “الميراث تسبب في تصدعات أسرية كثيرة، وهناك وقائع لقطيعة كاملة بين الإخوة بسبب التركة، لكن تدخل الآباء في حسم ذلك قبل الوفاة يكرس استمرار العلاقة الإنسانية بين أفراد الأسرة دون أن يتسلل إليها حقد أو ضغينة بسبب الموروثات المجتمعية البالية التي ساعد عليها المتشددون دينيا”.

ربما توقف الفتوى إذلال البعض من النساء، غير أن مشكلة العديد من الأسر في مصر أنها ترضخ لرؤى وفتاوى المتشددين بشكل يفوق استجابتها لخطاب المؤسسة الدينية، ما يتطلب تسليط الضوء على هذه المشكلة عبر وسائل الإعلام والمساجد، وتعميم الفتوى الوسطية في الخطب الدينية لنسف الميراث الفكري القديم.

إذا كان القضاء يمنح النساء الحق في الحصول على ميراثهن بالقانون، بل إن هناك تشريعات تقضي بحبس الممتنعين عن الإرث، فإنه من الصعب في مجتمع شرقي أن تقدم المرأة على حبس أقاربها، لأنها بذلك ستعيش موصومة بتهمة التمرد ومخالفة العادات والتقاليد والأعراف، ما يتطلب حراكا دينيا أوسع يستهدف كل الأسر.

وتبدو الأزمة لدى العديد من الأسر أكبر من صدور فتوى عقلانية من المؤسسة الدينية، فالمعتقدات البالية التي ورثها الآباء عن طريقة توزيع التركة يتحملها رجال الدين، ويجب العمل على وقف الصراعات الأسرية التي تحدث كل يوم بسبب الميراث.

* أحمد حافظ